سوسيولوجيا التواصل على الشبكات الاجتماعية

مدونة أفق
حسين قبيسي*


الرجال والنساء الذين يتعارفون ويتلاقون عبر الانترنت، وفي جميع أنحاء العالم، باتوا يُعدّون بعشرات الملايين، فقد استطاع الانترنت، خلال بضع سنوات، أن يعولم العلاقات الاجتماعية وأن يصبح الحقل الأوسع والمجال الأول للباحثين عن “النصف الآخر” في علاقات الصداقة والحب والزواج. فما هي العادات الاجتماعية التي نشأت عن ذلك، والتي يرى علماء السوسيولوجيا والسيكولوجيا المجتمعية أنها لم تعد تُخيف أحداً، وانتقلت من السر إلى العلن، وباتت جزءاً من مجموعةً عادات عصرية أخرى أنتجها عصر التكنولوجيا، كالسلوك المرتبط بالحفاظ على البيئة، وعدم الاهتمام بالأناقة والزي الخارجي، واختلاف معايير السلوك في العمل، وتناول الأطعمة الـ”بيو” لمكافحة البدانة… وما هي القواعد الأخلاقية التي تحكم علاقات التعارف والتلاقي عبر الانترنت؟


يرى باسكال لاردلّييه Pascal Lardellier أستاذ علوم المعلوماتية والتواصل في جامعة بورغونيه Bourgogne وصاحب مؤلَّف “القلب.نت، العزوبية والحب على الشبكة العنكبوتية” (Le Coeur net. Célibat et amours sur le Web, Belin, 2004) أن ما حدث في البلدان الغربية، مع بداية القرن الحادي والعشرين، كان شبيهاً بحدوث “ثورتين دفعة واحدة”: فمن جهة أولى، كان هناك ارتفاعاً تزايداً في أعداد العازبين والمطلقين، وقد تضاعف مرتين عما كان عليه قبل عشرين عاماً، ليبلغ 12 مليوناً في فرنسا وحدها؛ ومن جهة ثانية، وصل من تغلغل الانترنت في حياة الناس الفردية والاجتماعية، أنه تمكّن من اختراع قواعد وعادات اجتماعية لم يكن منتظراً قطّ أن تأخذ بها شرائح المجتمع وفئاته كافة.

هذا التزايد في أعداد العازبين يُشير بوضوح إلى صعوبة العثور على النصف الآخر، والعثور على النصف الآخر، الذي هو أمرٌ طبيعيٌ وعمل شيِّقٌ بقدر ما هو شاقّ، لا بل إن هذه الصعوبةً تزايدت في العصر الحديث، على الرغم من تكاثر أساليب التواصل والانفتاح والاختلاط والتلاقي.. وتكاثر العوامل المتنوعة والمعقدة التي أسهمت في تطوّر العلاقات الزوجية التقليدية وتحوّلها من حال إلى حال؛ إذ يرى لاردلّييه أن العلاقات المدينية، والتحرر السياسي والاقتصادي الذي لم يقتصر على المرء وحده بل طال المرأة كذلك، رافقهما ظهور أمراض جنسية مختلفة، ما لبث بعضها أن تحوّل إلى وباء كالسيدا وأمراض فقدان المناعة، أشاعت الخوف والحذر في العلاقات الاجتماعية، التي كانت أساليبها قد أخذت تتخلخل منذ منتصف القرن الماضي،  وحتى من قبل وصول تكنولوجيا الاتصال والتواصل الجديدة، مع بروز تشريعات جديدة قمعت “التحرّش” إذ صنفته عملاً متخلفاً، مهيناً، رجعياً ووحشياً.. ومع “جمود” العلاقات على هذا النحو، ظهرت اختصاصات جديدة في صناعات التسلية وسوق النشر.. فكُتّاب سيناريوهات السينما والتلفزيون، وصُنّاع الدعايات والإعلانات، وأطباء العلاقات الاجتماعية والعلاجات النفسية، جعلوا من هذا الوضع مادة لعملهم، وتحوّل تكاثر العازبين في المجتمعات الأوروبية، إلى ظاهرة اجتماعية عكف على دراستها الباحثون المختصون بالسيكولوجيا المجتمعية وسوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية.

لئن كان الزواج يتمّ وفقاً لمقتضيات التقاليد الاجتماعية الخاضعة لثقافة هذا المجتمع أو ذاك، أو لتقاليد هذه الطبقة أو الفئة الاجتماية أو تلك، فإنه بات اليوم خاضعاً لللتفتح الثقافي والمستوى المعرفي الفردي والمهني المتنوّع لدى العازبين، الذين يستغلّون ما توفّره تكنولوجيا التواصل الاجتماعي من أساليب جديدة في التلاقي، وباتت الأولوية للّقاء والتعارف، لا من أجل الزواج بحدّ ذاته. وتلك أولويّة تحوّلت إلى حاجة حقيقية تولّدت منها سوق جديدة وواسعة: فتكاثرت مواقع خدمات التواصل على الانترنت كالفطر، ونشأت مؤسسات تعارف ووكالات زواج، لا يخلو بعضها من الرصانة، لكنها بقيت مغْفَلة في أول الأمر، بالنظر إلى الحذر الاجتماعي النسبي منها، ثم أصبحت مُعلَنةً وغير مُعيبة اجتماعياً.

كانت الظروف مهيّأة لكي يبدأ التعارف عبر الانترنت مع بداية التسعينيات. ومنذ البداية، بدا الانترنت أنه، قبل كل شيء، آلة عملاقة لنسج الصلات والعلاقات بين الأفراد، حتى بات اليوم مصنعاً عملاقاً لمغامرات وعلاقات تفوق الوصف والخيال. ولا بد من الإشارة إلى أن التلاقي على الانترنت لا يتَّصف بالنوايا السيئة بقدر ما يُعيد الاعتبار إلى الحلول النفسية والعقلية التي يحتاجها القسم الأعظم من البشرية بعد السلوك الاجتماعي الذي فرضه نمط العيش الحديث: الناجم عن انحلال الروابط المبنية على الانتماء الجماعي (العائلة، القبيلة، القرية، الحي، الخ..) وسيادة نمط العيش المديني الذي أنعش الفرد واستقلاله الفردي والحريات الفردية.. فالتواصل الاجتماعي على شبكات الانترنت تجسيد لعولمة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية على أنواعها، وفي مقدمها، علاقات التعارف والصداقة والزواج.. أو ما يُسمّى في البلدان التي بات اقتصادها قائماً على ما يُعرَف بـ”اقتصاد المعرفة” بـ”اقتصاد السعادة”، و لم يعد الناس يأنفون من القول بأنهم تعارفوا وتزاوجوا على الانترنت. فقد بات ذلك من التقاليد الاجتماعية: تُشير الإحصاءات إلى أن عازباً من كل عازبين يستخدم شبكة التواصل الاجتماعي من أجل السعادة… عازبون، مطلقون، مراهقون، نساء، رجال، عمال، موظفون كبار، من جميع الأعمار وجميع الأوساط الاجتماعية..

يرى جان بول كوفمان صاحب مؤلَّف “الحب على الانترنت” (Sex@mour) أن ذلك ينطبق أيضاً على جيل الكهول الذين تكونت عاداتهم التعارفية وفق نمط سابق على تكنولوجيا الاتصالات التي تربى عليها جيل الشباب الجديد، من دون أن تُعرف بعدُ ما ستكون عليه عقابيل هذه التربية وآثارها على العلاقات الاجتماعية المقبلة؛ فالجميع يسعى للعثور على “نصفه الآخر”، والنساء أكثر من الرجال، ذلك أن هذه الطريقة الجديدة في التعارف، توفر أمناً نفسياً، وتُريح من صدمة الصدّ، فحاجز الخجل سقط وبات التعرف إلى شخص من الجنس الآخر أو “التحرّش” به يتخطى الخجل وغير ذلك من العقد النفسية، وبات عملاً مشروعاً ـ اجتماعياً ـ وتلك ثورة: فمستخدم مواقع التعارف يفعل ذلك مسترخياً في منزله، سواء كان المستخدم أنيق المظهر أم لا، وسواء كانت المستخدِمة بكامل ميكياجها أم لا…

على الرغم من تزايد مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت، وتكاثر السير الذاتية الخاصة بالمشتركين.. يبقى البحث عن السعادة شاقاً كمن يبحث عن “إبرة وسط كومة قش”. فمرحلة النشوة الأولى في العثور السريع على النصف الآخر، سرعان ما تليها مرحلة التوجّس والخشية التي تبدأ بـ”تصحيح” العلاقة الذي يُفضي إلى خرابها؛ فالحب من النقرة الأولى يشبه الحب من النظرة الأولى، وسقوط القلب في الشبكة العنكبوتية، يشبه السقوط في شباك الحب. والمرحلة الأكثر صعوبة في العلاقة عبر الانترنت ليست في العثور على لقاء بأحدٍ ما، بل في الاقتناع به، والحفاظ عليه، أي من دون أن يخالط هذه العلاقة تصور علاقة أخرى أفضل منها والرغبة الدائمة بالعثور على “آخر” أكثر كفاءةً وأقرب إلى القلب والعقل. حتى إن جان بول كوفمان Jean-Paul Koffman، الباحث في “المجلس الوطني (الفرنسي) للبحوث العلمية” (CNRS) يرى أن الانترنت قد عبّد الطريق أمام أخلاقية جديدة تماماً في علاقات التعارف والحب والزواج، أخلاقية ترى ألا ضيْرَ في أن يسلك المرء (والمرأة) أقصر السبل وأيسرها إلى.. السعادة”، لولا أن السعادة نفسها ـ على هذا النحو، ومن هذا السبيل ـ تكاد تصبح تسلية كباقي التسليات الأخرى! فقد أدّى الانترنت ـ بتيسيره سُبُلَ التعارف والتواصل ـ إلى تسطيح علاقات الحب والزواج؛ فالمواعيد تعيَّن بيسرٍ وبسرعة، واللقاءات تحصل بسهولة فائقة، والحدود بين التعارف والتزاوج، وبين الحب والصداقة، تتقلص، من دون أن يدري المتعارفون والمتواصلون والمتحابّون والمتزاوجون ماذا يريدون حقاً…

في الوقت نفسه تنطوي العلاقة عبر الانترنت على إيجابيات كثيرة فهي أشبه بمختبر لاكتشاف الآخر، ولكن على نحو آخر: فأسلوب التواصل يعكس إلى حد كبير مستوى ثقافة صاحبه وتربيته ونفسيته، حتى أن هناك قواعد مسلكية، كي لا نقول أخلاقية، تجعل التواصل على الشبكات الاجتماعية عملاً اجتماعياً حقاً، فعلاوةً على القاعدة الذهبية الأولى التي تقضي بعدم الوثوق بالصورة والمظهر الخارجي، لأنه قد يُفضي إلى خيبة أمل كبيرة، هناك قاعدة أخرى، وهي أن صورة الآخر ليست جسمية أولاً، بل خلقية، أو معنوية، تتكوّن من أسلوب المخاطبة ومستوى الكتابة وسلامتها من الخطأ، الإملائي على الأقل، فذلك يعكس المستوى الفكري والثقافي، ومدى الصدق في الصفات والمزايا الشخصية، ولاسيما التفاصيل الصغيرة منها، إذ غالباً ما تُنسى هذه التفاصيل، لتنكشف الحقيقة فيما بعد… ومن يرغب في الاطِّلاع على أحوال التعارف على الانترنت بالعربية، وعلى حالة الفوضى والتزوير والخداع الضاربة فيه، فما عليه إلا الرجوع إلى “التقرير التأسيسي للمحتوى الرقمي العربي” الذي يصوّر واقع حال الانترنت العربي، فهو بمثابة فضيحة مخيفة لما يُعانيه هذا الواقع من ثغرات شتّى، لا من أجل الفضح والتشهير، بل من أجل إصلاح العيوب التي تشوبه.

*مؤسسة الفكر العربي

إرسال تعليق

أحدث أقدم