شبكة النبأ المعلوماتية: مدونات عراقية في زمن غابت فيه الرؤية والإرادة

بقلم حيدر الجراح

في المعنى العام، تعني المدونة مجموعة الضوابط والقواعد الحاكمة لاي نشاط بشري يمارسه الانسان في حياته.
مثلا مدونة السلوك في المجتمع ينشأ عليها الانسان منذ طفولته ويتناقل تعليماتها، اوامرها ونواهيها.. من خلال اقوال وافعال اهله ثم محيطه الاقرب ومن ثم محيطه الاوسع مع ذوات الاخرين، ومدونة الاخلاق كذلك.. وغيرها من مدونات هي في الاصل مدونات شفهية وسلوكية.
قلة من الناس لا تكتفي بهذه الطريقة من ايصال المدونات اليها بل تلجأ الى القراءة والبحث والتحليل والنقد والاستنتاج وهي الطبقة المثقفة في كل مجتمع.. فهي اضافة الى كونها مشدودة الى مدوناتها الشفهية تلجأ الى المدونات المكتوبة.



لكل مجتمع مدوناته الشفهية التي كثيرا ما يلجأ اليها رجال القانون والمشرعين في دساتير الدول وتشريعاتها القانونية.. بغض النظر عن صوابية نلك المدونات من عدمها.. مثل النظرة الى المرآة في المدونة الشفاهية، واعتبار اي فعل مما تعارف المجتمع على ادانته، وخاصة فيما يتعلق بامور الجنس ينعكس ذلك على المدونة المكتوبة عبر القوانين التي تسامح الرجل في ارتكاب جريمة قتل المرأة دفاعا عن الشرف رغم ان النص القراني يساوي بين المراة والرجل فيما يتعلق بجريمة الزنا.
من هنا كثيرا او قليلا ما ينشأ نزاع بين المدونات الشفهية والمدونات المكتوبة تبعا لوعي المجتمع نحو بعض المسائل نتيجة التدافع الاجتماعي وايضا السياسي.. في المجتمع العراقي توجد الكثير من المدونات التي توارثها افراده عبر اجياله المتعاقبة.. واول ما يلاحظ عليها التعارض الصارخ حتى في مدونة السلوك الواحدة..مثال ذلك قيمة الايثار، قيمة انسانية واسلامية عليا يتحدث الجميع عنها كفضيلة من الفضائل، الا انك نادرا ما تجد من يؤثر الاخرين على نفسه.. ومثال اخر فيما يتعلق ببعض الممارسات في عاشوراء، حيث تجد الكثير من المقتدرين ماديا الذين ينفقون اموالا طائلة لاغراض الطبخ ولكنهم يحجمون عن تقديم اي مساعدة مادية ولو بسيطة لاسرة فقيرة بأمس الحاجة لهذه المساعدة.
وخذ مثلا ما يتعلق بالتعامل بين الناس، حيث يستهجنون ويستنكرون كل تصرف انتهازي واستغلال الاخرين لكنهم لا يتورعون عن مديح مثل هذا الشخص ووصفه بوصف (ذيب امعط) او (سبع) لقدرته على التخلص والتملص.
في العام 2003 وقع الزلزال العراقي باسقاط الطاغية صدام حسين ونظامه البعثي الذي ترك الكثير من مدونات سلوكه في السياسة والثقافة لاكثر من جيل في المجتمع.. الزلزال وتبعاته، وان كانت تبدو واضحة للعيان في الفضاء السياسي الرحب بسبب تسليط الاضواء الكاشفة عليه، الا انه ايضا ترافق مع العديد من الظواهر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وأضيفت الى المدونات السابقة نصوص جديدة، ان أمعنا النظر فيها جيدا لوجدناها تتاثر بنصوص المدونات السابقة للعام 2003.. بداية اود ذكر ملاحظة وهي ان سنوات الحصار الاقتصادي على العراق والهجرة الطوعية والتهجير القسري لملايين العراقيين لم تجد اهتماما بحثيا كافيا لدى الدارسين العراقيين رغم اهميتها القصوى في الكثير من نصوص المدونات التي نعيش فصولها الان.. وان وجدت تلك الدراسات والبحوث فهي عادة مبتسرة ولا تحيط بالمشكلة من جميع جوانبها ولا تستقريء اللوحة بمجالها الكامل ربما بسبب الفترة الزمنية التي كتبت فيها قبل العام 2003 والتي كثيرا ما ترجع تلك الظواهر الى عامل خارجي تقاومه السلطة حسب مزاعم تلك المدونات.
ورغم الحرية المتاحة الان للباحثين للكتابة عن تلك الفترة الزمنية الا ان الاهتمام اصبح منصبا على اعادة تأريخ تلك العقود من حكم البعث من خلال المذكرات والسير الشخصية والدراسات التاريخية.
ظاهرة الفساد المالي والاداري، وانحطاط القيم في المجتمع العراقي، لايتم ردها الى عقد التسعينات وسنوات الحصار بل اصبحت ظاهرة مرافقة للاحتلال وكأن جميع تلك الظواهر نبتت من فراغ في بنية المجتمع دون وجود جذور لها اصبحت نخرة وأينع قطافها المر هذه السنوات.
يحدثني والدي الذي عمل منذ السبعينات في المحاكم الشخصية العراقية وغيره من معاصري تلك الحقبة أن كثيرا من الزوجات كن يرفعن دعاوى طلاق وتفريق عن ازواجهن اذا ثبت اختلاس الازواج اموالا من وظيفته العامة.. تلك مدونة سلوك اصبحت الان محض خيال، فالزوجة تشجع زوجها على الاختلاس وسرقة المال العام للاثراء سريعا من وظيفته لانها قد عانت من الجوع والعوز والفاقة سنوات الحصار التسعيني.
وعن مدونة السلوك التعليمي، كثيرا مانتذكر اساتذتنا الاوائل في مراحل الدراسة الابتدائية او بعدهم في المراحل الاخرى والذين كانوا يفنون حياتهم في تعليم الطلاب وايصال المعلومة اليهم باقصر الطرق، ولم نكن نسمع بالدروس الخصوصية او الملازم التي يطبعها هؤلاء المعلمون الاوائل ويجبرون طلابهم على شرائها.
مدونة السلوك التعليمي الان تغيرت واصبح النجاح يمر عبر بوابة الدروس الخصوصية لنفس المعلم الذي لا يكلف نفسه ايصال المعلومة الى طلابه من خلال الوظيفة الحكومية بل هو على استعداد لايصالها عبر وظيفته الخاصة الجديدة لقاء مبالغ من المال تكثر او تقل تبعا للمواد الدراسية ومراحلها.
هذا الخراب يتجذر في مدونة السلوك تلك ليستمر حتى التعليم الجامعي، فلا هم للطالب الان الا تحصيل الشهادة بمختلف الطرق لاغراض التوظيف والتعيين في وظائف الحكومة، واصبح النجاح مقرونا بشراء الاسئلة الامتحانية او دفع مبلغ معين للاستاذ الجامعي ولاأحد يسال عن مستويات الطلبة او مستويات الاساتذة فالشهادات ممهورة باختام الجامعات المقدسة.
احسب ان مهمة تغيير تلك المدونات في السلوك والاخلاق لا يمكن ان تتغير بين ليلة وضحاها لحجم الخراب الكبير الذي ضرب اسس المدونات الاخلاقية والسلوكية السابقة لاكثر من اربعة عقود.. قد يساعد المشرع العراقي اذا امتلك الرؤية والارادة في تقصير زمن التغيير.
شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/كانون الثاني/2012 - 2 /ربيع الأول/14

إرسال تعليق

أحدث أقدم